العمل المدني ودوره الحيوي في مستقبل سوريا
مدونة ضيف بقلم عبد السلام حجازي
3 كانون الثاني، 2023 - مع انطلاقة ثورة الشعب السوري المطالِبة بالحرية والكرامة ضد نظام الطاغية وما ترتب عليها من تبعات سواء من حيث توقف الخدمات التي لم تكن في أفضل حالاتها أساساً قبل اندلاع الثورة، أو من حيث بدء توافد النازحين بفعل القصف والعمليات العسكرية إلى قرى شمال غرب سورية المحررة. في هذا الواقع الجديد، وجد الشباب والمجتمعات في هذه المنطقة أنفسهم أمام حدث تاريخي لم يسبق لهم معايشته من قبل، من حيث استقلالهم عن أي سلطة ومسؤوليتهم عن إدارة المنطقة وتأمين الموارد ومتابعة التعليم وتوفير الأساسيات اليومية وتدبير شؤون النازحين.
ليبدأ الشباب السوري أول خطوة للعمل المدني الحر منذ عام 1970 بعد أن طحن الأسد الأب عظام التشكيلات السابقة للمجتمع المدني ونكل بالناشطين/ات فيها ووأد كل ما يمت للعمل المدني بصلة مع استتباب سيطرته على مقاليد الحكم في سوريا.
ومع استمرار الاحتجاجات وتواصل خروج المناطق واحدة تلو الاخر عن سيطرة النظام، اتجه الشباب لتشكيل التنسيقيات في البداية لأهداف تشمل تنظيم العمل الثوري والتخطيط له والحفاظ على زخمه كخط اللافتات وتجهيز السيارات وأماكن تجمع المظاهرات وإدارتها ونقل التظاهرات عبر وسائل الإعلام، ومن ثم بدأت تتسع أنشطتهم وتكبر فرق العمل لديهم من خلال اتجاهها للتنظيم وبروز التخصصات في المواضيع التي يتم العمل عليها من متطوعين فاعلين ومؤثرين.
وعلى الرغم من حداثة العمل المدني في شمال سوريا الذي كان يتلمس طريقه نحو العمل المؤسسي المنظم المنضبط بقواعد العمل المدني المعروفة عالمياً، والذي بدأت ملامحه الرسمية المنظمة بالظهور مع دخول المنظمات الدولية وتوجه الداعمين إلى مناطق النزاع في سوريا، إلا أنه كان يقف مسبقاً على ثرى صلبة من الأخلاق والقيم الوطنية التي تحررت من قيد الديكتاتورية مع أول صرخة في ثورة الكرامة التي أطلقها ثوار درعا وهي (واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد)، وكانت ممارسات الشباب الثائر وشعاراته وطموحاته في تلك الفترة تشي بمستقبل واعد وأفق ساطع سيعمل هذا النطاق على تحقيقه.
وطبعاً، لم تكن منظمة مداد التي بدأت عملها عام 2018 بمنأى عن طموحات الشباب وبقية الأجسام المدنية التي تشكلت لعلاج القضايا ذات الأولوية في المراحل المتتالية من عمر الثورة ومخاضها العسير حتى حينه.
نؤمن –وهو ما يشكل منهجاً ومرتكزاً لكل خطط عملنا المرحلية والاستراتيجية ونظريات التغيير التي نتبناها- أن مداد هي عود من حزمة ولن يكون لها أي تأثير أو فاعلية إلا في إطار الجهد الجماعي النابع من الفهم المشترك لطبيعة عمل وأهداف المجتمع المدني، الذي تقوم به المنظمات سواء في شمال غرب سوريا أو في عموم التراب السوري.
وإذا أردنا الحديث عن تطور أداء منظمات المجتمع المدني التي تشكل منظمة مداد جزءاً لا يتجزأ منه، فإننا لا بد أن نشير إلى المراحل التي مرت بها المنظمات وصولاً إلى ماهي عليه الآن، سواء من حيث البنية والتشكل أو من حيث الوصول إلى مصادر التمويل، أو من حيث التفاعل والتشبيك مع بعضها البعض في مناطق عملها وخارجها أو مع تلك التي تعمل في المهجر، أو من حيث التحليل الدقيق لبيئة العمل التي تقدم خدماتها فيها وصياغة التدخلات الناجعة التي تداوي جراح المنطقة وتسد ثغرات احتياجها.
ففي البداية ركزت المنظمات على الجانب الرعائي والخدمي وكان جل نشاطها تقريباً ينحصر في تقديم الخدمات الملموسة والتمكين المهني بصيغته المتواضعة كتوزيع سلال الإغاثة ومواد النظافة ودورات التمكين في الخياطة والحياكة وصناعة المنمنمات والصابون والمواد الغذائية ...إلخ. ومن ثم انتقلت فيما بعد إلى التركيز أو الانخراط في قضايا التمكين المعرفي والحشد والمناصرة، والتي ساهمت في رفد المجتمع المحلي والفئات الضعيفة بالكثير من المهارات التي ساعدتهم/ن على الانخراط في سوق العمل وعلى الحشد للقضايا الحقوقية والإنسانية الناتجة عن الحرب أو عن الواقع الجديد الذي ساد المنطقة.
ومن وجهة نظر شخصية، أعتقد -من خلال التجربة والاحتكاك مع منظمات وفاعلين مدنيين- أن الكثير من منظمات المجتمع المدني في الداخل السوري قد وصلت إلى مستوى معين لم تعد تستطيع تجاوزه فيما يتعلق بالمناصرة، ويلاحَظ التكرار النمطي أحيانا لحملات المناصرة أو المواد التدريبية الخاصة بالمفهوم مقيدة في قالب معين من الأنشطة والتكتيكات التي تشرح العملية والهدف منها والفئة المستهدفة، وأعتقد أننا بحاجة إلى تبسيط المفهوم وأدوات التعبير عنه وليس تقديم الموضوع في باقة معينة جامدة تفتقر للإبداعية والفن في طرح الموضوع وفي ترتيب تنفيذه، يكون التركيز فيها على النوع في المخرجات والأثر لا غير.
وأيضاً لم تتوان منظمات المجتمع المدني عن التطلع إلى لعب دور في المساءلة والتأثير في السياسات في أماكن عملها، وقد حققت الكثير منها في بقع جغرافية معينة خطوات تحسب لها في هذا الصدد ساعدتها فيها طبيعة المنطقة والزخم المدني فيها، فيما تعثرت أخرى عن القيام بذلك لأسباب تتعلق بخرائط السيطرة وبالجرأة في الطرح وبإيمان تلك المنظمات بقدرتها على القيام بذلك من عدمه.
وعلى الرغم من الخطوات التي يسير بها المجتمع المدني السوري الثابتة أحياناً والمتعثرة أحياناً أخرى فإنني أعتقد أن العبء الأكبر من صناعة مستقبل سوريا الحرية والعدالة هو بيد أبناء المجتمع المدني الذين يجب أن يخلصوا طريقهم ويحافظوا على قيمهم وأن يكون بعضهم لبعض ظهيراً في تحقيق أهدافهم في سورية خالية من الاستبداد.
ختاماً، أعتقد أن المجتمع المدني هو روح إنسانية حية تعبر عن قضايا حية لا تمثله تجربة ولا تحده نظرية ولا تؤطره قوانين وضعها أحدهم في بقعة ما من العالم، وسيبقى المجتمع المدني أيا كانت تجربته أو خصوصيته أو عثراته، هو هموم الناس وطموحاتهم، وهو السلطة القضائية التي لا كبير يعلو على سلطتها ولا صغير يفتقد خيرها، وهو الأرملة الفقيرة التي بالكاد تتدبر قوت يومها، وهو الطفل اليتيم الذي يجلس على باب خيمته في صباح شتوي يرقب سطوع الشمس وخيوط الأمل، وهو المعتقل والمعتقلة الذين ينتظرون يداً بيضاء تمتد إليهم لتخرجهم من القهر والظلم الذي يلتهم أرواحهم وأجسادهم في كل يوم، وهو الريشة الزاهية التي ترسم من ألوان السماء أملاً بمستقبل أفضل لكل فرد في فسيفساء المجتمعات التي أنهكها الطغيان.
تنويه: يعبِّر هذا المقال عن رأي كاتبه فقط، ولا يعبِّر بالضرورة عن رأي موقع بيتنا.