العمل المدني - نظرة إلى الواقع واستشراف للمستقبل

مدونة ضيف بقلم قحطان الهويدي

24 تشرين الأول، 2022 - يعيش السوريون اليوم -على الجغرافية السورية وفي بلدان المهجر- امتحاناً صعباً واستحقاقاً تاريخياً بفعل التحديات التي تواجههم، حيث يقع على عاتقهم تجميع أجزاء الصورة التي مزقتها سنين الحرب ومقاربة وجهات النظر المتفرقة والاتجاهات المختلفة التي أفرزتها مختلف أطراف النزاع المتصارعة.

اختلاف مناطق السيطرة الذي ألقى بظلاله على السوريين وأصبغ عليهم "صبغة طارئة" لم تكن موجودة قبلاً بالإضافة للآفات المهيئة مسبقاً (الطائفية، المناطقية، العرقية …) والتي كانت كامنة لفترة وبدأت تطفو على السطح بقوة بفعل تلاشي الدولة، مهددة ما تبقى من رابطة وطنية ومن تماسك مجتمعي. عزز ذلك الدعاية (المُشيطنة) للآخر والتي ترعاها بعض جهات السيطرة -للأسف- وغياب التواصل والتشبيك (السوري - السوري).

ورغم ذلك، يبقى الأمل معقوداً على "المجتمع المدني"، القاسم المشترك الذي يجمع الكل تحت سقفٍ واحد جامع، هو سقف المواطنة.

فقد دأب "العمل المدني السوري" على ملء الفجوة الموجودة ورأب الصدع المجتمعي فبدأ على شكل مبادرات شبابية فردية وجماعية تطوعية (ثقافية - إغاثية - تعليمية …)، وقد لقيت هذه الجهود على بساطتها دعماً مجتمعياً كبيراً وتفاعلاً غير محدود من مختلف الشرائح والمكونات.

في المراحل اللاحقة، بدأ الملل والإحباط يتسرب للكثير من الشباب المدني بفعل طول فترة النزاع الذي ترك ضخامة في الاحتياج وفي المسؤولية الملقاة على عاتقهم مع شح الإمدادات وانعدام الرؤية الاستراتيجية وغياب العمل التنظيمي، بالإضافة للتضييق الذي وصل لحد (تهديد الحياة) في المناطق التي لوَّنها (التنظيم) يوماً ما بالأسود. 

لكن منذ سنوات قليلة، بدأ العمل المدني يأخذ شكلاً آخر أكثر تنظيماً واحترافية، وعاد إلى الواجهة بقوة بمشاريع الدعم النفسي والتمكين والتعافي، ودعم المرأة والتوعية والمناصرة، وصارت له قوة على أرض الواقع في توجيه الرأي العام إلى حدٍ ما، واعتراف خارجي أوجد له نوعاً من الحصانة (الهشة).

فقد ظهر العمل المدني بهيئة المنظمات والجمعيات والمبادرات بشكل معلن وجلي، بوجودٍ معتبر على الأرض وبصمة واضحة، ووصلت لمراحل عالية من التنسيق عبر تشكيل الشبكات والتحالفات (الرمزية)، وانقسم المجتمع بين مؤيد ومعارض لها، فهناك من اعتبرها ثورة في الحقوق والتعبير والوعي والتمكين.

وهناك من اعتبرها مجرد "دكاكين" لا يهمها الأثر المجتمعي والرؤى والرسائل التي تعلنها، بقدر ما تبحث عن التمويل واستدامة الدعم.

وكل طرف من الأطراف المذكورة لديه ما يعتبره دليلاً على صحة توجهه، ولكن الواضح للعيان، أن هناك عملاً مدنياً معتبراً متفاوت الأثر بحسب المنطقة وبحسب العاملين فيه، ويتحكم في ذلك عوامل عديدة، أهمها:

·       مدى تساهل السلطات الموجودة، وهذا العامل يختلف (سلباً أو إيجاباً) بحسب مناطق السيطرة.

·       كمية الدعم المقدم للمنظمات واستدامته.

·       القيود والتوجيهات التي يفرضها الداعم، والتي تؤثر مباشرةً على توجهات المؤسسات.

·       عدم وضوح الرؤية وغياب التخطيط الاستراتيجي، والذي يُوجد تذبذباً في نهج المؤسسات، وبالتالي، عدم الفاعلية على الأرض.

·       احترافية الأفراد داخل المؤسسة يؤثر بشكل مباشر على الأداء.

·       النفعية المتفشية والتي تقصي أصحاب الكفاءات وتلغي روح العمل المدني.

·       عدم تقييم الاحتياجات المجتمعية بشكل جيد، مما لا يحقق الغرض المطلوب من العمل.

·       المشاريع الشبابية والتي تحدد مدى انخراط الشباب في العمل المدني.

تشكل هذه العوامل وغيرها المعيار الذي يحدد كفاءة المؤسسات المدنية وجودة عملها على الأرض، وتنعكس بالسلب أو بالإيجاب على مقاييس الرضا المجتمعية.

وفي حال أردنا النظر إلى الواقع واستشفاف المستقبل، نجد أن الأمور تسوء للأسف وتتجه نحو الترهل ونحو تشكل شرخ كبير بين العاملين في الحقل المدني وباقي المجتمع، وتحتاج المؤسسات المدنية في المستقبل إلى إعادة ترتيب لصفوفها، وإعادة نظر في سياساتها وتوجهاتها ومحاسبة الذات، (ماذا فعلنا وماذا كان الأثر وكيف يمكن أن نحسن الأداء مستقبلاً، وهل المجتمع الأهلي بحاجة لهذا العمل وما أهميته بالنسبة له؟)

ويمكن ذلك بخطوات بسيطة ومهمة في نفس الوقت، عن طريق النزول إلى الشارع واستقصاء الآراء والاستماع لما يريده المجتمع، وإيجاد صورة أكثر وضوحاً للمؤسسات المدنية بأنها مساحات للجميع وليست منتديات "للنُخَب". وترسيخ الحوكمة داخل تمثيلات المجتمع المدني بكافة أشكالها لتكون متاحة للجميع. 

ويمكن أيضاً بناء وتشكيل وإعادة هيكلة التحالفات والشبكات بشكل أكثر فعالية، والتي يمكن أن توحد الجهود وتعطي زخماً للقضية المستهدفة مهما كان نوعها، وأن توجد فئة مسموعة وقوة ضاغطة على السلطات الموجودة بفعل العدد الكبير وضخامة الكيانات الناتجة عن تلك التحالفات. 

سينتج عن هذه الخطوات تشاركية في التجارب والخبرات، ومستوى متقدم من الرقابة على المكونات والأفراد خلال العمل المشترك، وبالتالي شفافية أكبر. 

بالإضافة لاستقطاب الشباب، ودمجهم في مشاريع العمل المدني كعاملين ومستفيدين، والتركيز عليهم في مشاريع التمكين وبناء القدرات والتوعية والتثقيف بهدف انخراطهم في العمل المدني بشكل حقيقي وفاعل فهم يعتبرون القوة المحركة لأي جهد مهما كان، بالإضافة لامتلاكهم الطموح والشغف والإرادة، وهي عناصر التغيير الأهم.

قد تخلق هذه الخطوات البسيطة في إجراءاتها نقلة نوعية في العمل المدني مستقبلاً، وتعيد له لياقته التي تراجعت في الفترة السابقة، وتجعل منه قوة لا يستهان بها في حال استطاع استثمار المورد الأهم، وهو المورد البشري المتمثل بفئة الشباب.


- قحطان الهويدي، ناشط في مجال المجتمع والعمل المدني. يعمل حالياً كلوجستي في منظمة شباب للتمكين.


  • تنويه: يعبِّر هذا المقال عن رأي كاتبه فقط، ولا يعبِّر بالضرورة عن رأي موقع بيتنا.

Previous
Previous

مع انتهاء الدورة التدريبية لهذا العام، يتطلع متدربو بيتنا إلى العمل المدني

Next
Next

تدريبات المهارات التي لا تزال تجذب الشباب السوري